البحث

الجمعة، 2 سبتمبر 2016

لمْ يَمُتْ جَدّي بَعدّ

                 " لم يمت جدي بعد ..! "
  لمْ أكنْ مِثلَ الصِغار أبداً ، لمْ أكنْ أُحبُ اللعبَ معْ الصِغار بِقدر ما كُنتُ أُحبُ مُجالسة الكِبار والإستماعِ إلى حَديثهم بِكثير منْ الفضول والدّهشة ..
  كانْ لدّي جدٌ حَبيب ، كانْ يَجمعُ جَميع أحفادهِ اللذّينَّ كُنتُ منْهم لِيعطي كُلَ واحد منّا قِطعةٌ نقدية ، كانْ الجميعُ يتسابْقون بِقطَعِهم النقديةِ منْ يَصلُ إلى الدكانِ أولاً لشراءِ ما يحبونَّ منْ حلوة ومثلجاتْ ، لَكنّي لمْ أكنْ أذهب بإتجاه الدكان بلْ كُنتُ أذهبُ بالإتجاهِ المعاكسْ ..
  لاحظَ جدي عليَّ هذا ولَحقنّي ذاتْ يوم ورأني كيفَ أُخبئ القِطع النقدية التي كانَ يعطيني إياها ، لمْ يّدعني أشعُر بوجودهِ ، خبئتُ النقود وذهبتُ للبحث عنْ جدتي عَلها تخبرني قصة جميلة من قصصها ..
  نَظر جدي إلى ما كُنتُ أخبئهُ تفاجأة بالنقودِ ، وفي حِيلة منّهُ وأنا أُجَلسهُ في أحدِ الأيامِ في مَجلسهِ سألنّي ما حُلمي فَقلتُ له : " أنّ أقتنّي أول كِتاب لي منْ ماليَّ الخاص " ، نَظر إليَّ مُتعجباً وسألني : " وماذا تَصنعُ طفلة مِثلُكِ بِكتابْ؟ " ، قُلتُ له : " أقرأهُ !" ، قال : " ولِما تقرأينَّ بدلَ اللهوِ معْ الصِغار اللذينَّ بِعمركِ ؟" ، صَمْتُ ولمْ أُجبهُ أزعجنّي سؤالهُ شَعرتُ أنّي طفلة وأنّا التي ما شَعرتُ يوماً إلا بِكبر سنّي داخل جسد الطفلةِ هذا ..
  تَكرر ذَلكَ المشهدِ الروتينّي حيثُ يُعطي جدي القِطع النقدية لِلجميع ، وتَكرر ذَهابي لمخبأ النقود لأنصَدمَ لِوجود نقوداً كثيرة وَوِجودَ جدي خَلفي يقول : " هذه لتشتري كِتابكِ صَغيرتي الكبيرة" ، فَرحتُ كثيراً لبُرهة ولَكنّي أعدتُ لهُ النقودَ وقلتُ : " لنْ أخُذَ أكثرَ منْ الباقين سأجمعُ النقودَ قِطعةٌ قِطعة لأجلهِ ، قال لي : " لَكنّكِ لمْ تأخذي أكثر منْ الباقين ، هذا أجرُكِ لِمساعدتَكِ لي اليوم في تَرتيب المَنزلَ بدلْ منْ جَدتك المريِضة" ، فَرحتُ جداً وإحتَضنتُ جدي واهديتهُ بين عينيه قُبلة وهرولتُ مسرعة الخُطى نحو المكتبة لِشراء الكِتاب ..
  وهُناك إستَغربَ البائعُ صِغر سنّي وقال أنّي لنْ أقدرَ على قراءة كتابٍ كهذا وأنّا في هذا السنّ ، ولمْ يصمتَ دونَ وصفهِ لي بالطفلة التي لا تَزالُ تتعلم الهجاء ، أجبتهُ بنبرة ثقة : " يا سيدّي إننّي أفقهُ أكثرَ مِنكَ بعلومِ اللغةِ والحسابَ والعلومَ وغيرها ، لا تَستَخفَ بصغيرٍ قدّ يَفوقكَ بِعقلهِ حجماً ، وتحدانّي أنْ أقرأ الكتابَ اللذي لمْ يفهمه منْ كانوا أكبر سنّاً منْي ، وطلبَ أنّ أُفسره له كيّ يتأكد منْ فهمي لهُ ..
  أخذتُ الكِتاب اللذي كانَ صَديقاً ورفيقاً يُلازِمُنّي في كُل مكانْ ، لا يُبارحُ يديَّ الصغيرتين وهو من فاقَهُما حَجماً ، أقرأهُ وأُنهيه وأعيدُ قرأتهُ مرةً أخرى حتّى أفهمَ كُل حَرفٍ منْ مُحتواه ..
  عُدتُ بعدَ غيابِ أسبوعيّن لِلبائع في المكتبةِ ، اللذّي ما انفكَ يفتحُ فاههُ مُندهشاً لِمْا حّدثتهُ بِلُغةِ طُفولية بَليغة تَفوقُ الطُفولةُ عِلماً وفهماً ، لمْ يُصدقَ ما رأهُ وما سَمعهُ منْ طفلةِ العشر سنوات ، كُنتُ لا زِلتُ أبلغُ العشر سنواتِ حينّ قرأتُ أولَ كِتابٍ ليَّ متخَلية عنْ أدبَ الأطفالِ اللذي لمْ يَعد يُناسبُنّي بعدَ ذاكَ اليوم ..
  القِراءة جَعلتْ منّي طِفلة كبيرة وأنّا اللتي لمْ أكبر بعد حتى ..
  لمْ يَنفك بائعَ الكُتبِ بالحديثِ عنْ مُعجِزة الطِفلة الصَغيرة بينَ الناسِ ، حتى وصلتْ قصتي إلى مسامعَ والدايّ وجدي ، قال والدايّ أننّي طفلةٌ يجبُ أنّ اللهو وأمرحَ لا أنّ اقرأ كُتبَ الكبار ، أخذّو منّي كتّابيَّ الأول ، بَكيتُ عليه كَثيراً حتى أحمرتْ عيناي ..
  في المساء جائنّي جدي بِكتابي منْ والداي إحتَضنتهُ وأحتضنتُ الكتاب أيضاً ، شكرتهُ وسررتُ بما قالهُ لي : " سِلاحُكِ قوي لا تدعي أحداً يأخذهُ منكِ أبداً يا طِفلتّي " ..
  أصبحتُ أقدمَ الخدماتِ لجدي اللذي كان يُكافؤنّي ببعضِ المال اللذي كنتُ أجمعهُ لشراءِ الكُتبِ ، وكُنتُ أحتفظُ بهنّ في بيتهِ خشيةَ والداي أنّ يمسانهمْ بسوءٍ أو يعاملوا كُتبيّ بتحقير يُزعجهم ، فالكُتبُ تشعرُ أيضاً ..
  كانَ جدي يُراقبُني حينَّ أقرأُ فأقرأ لهُ ، ويُراقبٌني حينَّ أكتُب وأقرأُ لهُ ما كَتبتْ ، كَبرتُ وأنّا جَليسةٌ رفقة الكُتبِ وجدي الحبيب حتى أصبحتُ في السابع عشرة من عُمري ، مرتْ سبع سنواتٍ على يوم إقتنائي للكتاب الأول والانَ رفوف مكتبتّي ممتلئة بالكُتب اللتي أحببتها كثيراً وأحببت جدي بقدرِ ما احببتُها بشكلٍ مضاعف ، فهو من كانَ لي نِعمَ السند ..
  هدَّ جسدُ جدي المرض بعد حُزنهِ على وفاةِ جدتي قَبلَ سنواتْ ، لمْ أُفارقَ جانبهُ أبداً ، أعتذرتُ للكتبِ فجدي الآن بحاجة إليّ ، لمْ تَبرحَ فكرة فِقدانّي لجدي أبداً كما فقدتُ من قبلُ جَدتي وقصصها ، كانتِ الفكرةُ تَهزُ جسدي رعباً ..
  وجاءَ ذاكَ اليوم اللذي فقدتُ فيه كَنزيَّ الثَمين جدي الغالي اللذي ما توقفتْ عيناي عن بُكياه كل يوم وفي كُلِ ليلة ، مُشجعي اللذي رثيته بكلامٍ عَجزَ الكبار عن فهمِ عُمقهِ لِبلاغته ..
  وهنا دُرتُ في دوامة الحُزن والعزلةِ عنْ الجميع ، أكتبُ وأكتبُ وأكتبْ قصة تَجعلُ جدي حيٌ يُرزق إلى الأبد ..
  قرأ شخصٌ ما كتبتهُ وأنّا غائبة في المدرسة ، حيثُ سمعَ عن بلاغتي وطلب منْ والداي رؤية من اقرأ وأكتبُ فقاداه إلى مُعتَكفي منزلَ جدي ، وهناك جالَ بين الكُتبِ وقرأ مسدوتي المكتوبّة ، التي فقدتها دون أن أجدها بحثتُ كثيراً عنّها حتى وجدتُها أخيراً في مكانٍ غير متوقع ..
  وجدتُها في أحدى رُفوف مَكتبةٍ كُنتُ زورتُها لِشراء كِتاب ، كانتْ القصة مُغلفة على شَكل كتابً بعنوان " جدي لمْ يمُت بعد !." ..
  كانتْ دَهشتي كبيرة جداً ، و رؤية إسمي على الغِلاف لهُ واقعٌ كبير في قلبي ، سألتُ : " كيفَ حدث هذا ؟! " ، فجاء صَوتٌ خَلفي يُجيبُني قائلاً ما حَدث حينَّ كنتُ مُتغيبة في المدرسة ودّعاني لِمكتبه ..
  ومنْ ذاك المَكتبِ أصبحتُ كاتبة ، تَكتبُ وتنشّر ، منْ بَعد ما كُنتُ فتاة تُمضي حياتها كُلها تقرأ ...

  أكتُبُ لِأُخلدَ ذِكرياتي وذاتي وأُناسٌ لا أّريدُ نِسيانهمْ ، وأقرأ كيّ لا أحبطُ أبداً أبداً وليسَ حينَ أحبط ، أكتب واقرأ بشغف ، فهذه أّنّا ..

                               النهاية .. بقلمي : سناء قبها 

anime

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق